طليعة كشف المتواري من تعدي عدنان إبراهيم على صحيح البخاري
سلسلة مقالات في الرد على عدنان إبراهيم فيما أثاره من شبهات حول صحيح البخاري
كتبها طارق الحمودي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أما بعد
فإن المتأمل الحاذق لما يثيره الأستاذ عدنان إبراهيم من استشكالات
وشبه على صحيح البخاري وصحيح السنة على طريقة أهل الحديث سيجد نفسه أمام
اجترار لما بثه سلفه من المعتزلة المتقدمين والمتأخرين الذين يقدمون عقولهم
وفهمهم على التسليم لصحيح السنة ...لأن العقل الصريح لا يتناقض أبدا مع
النقل الصحيح...إنما يرد التعارض ابتداء ..ويستصحبه هؤلاء لعدم قدرتهم على
الجمع بين ما يظهر منه التعارض خلاف طريقة أهل الحديث..فالرد سهل
..والاستشكال للتشكيك يستطيعه كل أحد..أما إعمال العقل والفهم الدقيق
لاكتشاف خبايا السنة وبيان موافقتها للقرآن والعقل فطريقة اختص بها أهل
الحديث... أهل العلم والإيمان . فأمثال عدنان إبراهيم أعيتهم السنة أن
يعوها ويفهموها فهما دقيقا...عميقا... فجنحوا إلى ردها بتضعيفها ...والحكم
أحيانا بوضعها..سالكين منهج الاستهزاء بأهل الحديث والسخرية من طريقتهم في
التسليم للسنة الصحيحة...على منهج الأئمة المحققين ولعله ينطبق على عدنان
إبراهيم ما رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/من 453/دار ابن الجوزي) وأبو
القاسم الأصفهاني في الحجة (1/205/دار الراية) وغيرهم – وهذا اللفظ عند
الأصفهاني -عن عمر بن الخطاب قال: (أيها الناس , إن أصحاب الرأي أعداء
السنن, أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها, وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين
سئلوا أن يقولوا: لا ندري, فعاندوا السنن برأيهم فضلوا وأضلوا كثيرا)
وألفاظ هذا الأثر مختلفة فلينظر في أصوله في ما ذكرت من مصادر. قال ابن
القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/91/مكتبة ابن تيمية) :
(أسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة ) وراجع تخريجه في تحقيق الشيخ
مشهور حسن سلمان للإعلام (1/102/دار ابن الجوزي) فقد صححه بمجموع طرقه.
ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه : (يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم
الإسلام) رواه البيهقي في السنن وانظر جملة طيبة من أمثال هذا عن الصحابة
في نفس المرجع. وليس معنى ذم الرأي عند أهل الحديث إسقاط العقل وإلغاؤه كما
يروجه أمثال عدنان..بل جعله في موضعه..وعدم المجاوزة به حده.وانظر مقالين
كتبتهما في مكانة العقل عند أهل الحديث والسلفيين. أولهما (مكانة العقل
..في الفكر السلفي!) والثاني (مكانة العقل في فكر المدرسة السلفية في
المباحث الكلامية).
وأمثال عدنان وقبله سلفه من المعتزلة الأوائل
لبسوا لبوس المحامي عن هذا الدين...في وجه الملاحدة وأعداء الملة من
كتابيين ووثنيين...لكنهم أساؤوا الترافع ..وأضروا من حيث أرادوا
الإحسان...تحسينا للظن بهم..كما حصل لسلفه كالنظام والعلاف وغيرهما من
المتكلمين الأوائل...فشأن أمثال هؤلاء المحامين الاستسلاميين رد الحديث
كلما وجدوا أنفسهم في موقف المدافع الضعيف ..في زعمهم...ولهم في استسلامهم
نظام خاص أحدثوه ..ليتفلتوا من الإحراج...! يقول العلامة عبد الرحمن
المعلمي رحمه الله تعالى في (الأنوار الكاشفة/ص18/عالم الكتب): (أضر الناس
على الإسلام والمسلمين هم المحامون الاستسلاميون، يطعن الأعداء في عقيدة من
عقائد الإسلام أو حكم من أحكامه ونحو ذلك فلا يكون عند أولئك المحامين من
الإيمان واليقين والعلم الراسخ بالدين والاستحقاق لعون الله وتأييده ما
يثبتهم على الحق ويهديهم إلى دفع الشبهة، فيلجأون إلى الاستسلام بنظام،
ونظام المتقدمين التحريف ونظام المتوسطين زعم أن النصوص النقلية لا تفيد
اليقين والمطلوب في أصول الدين اليقين، فعزلوا كتاب الله وسنة رسوله عن
أصول الدين، ونظام بعض العصريين التشذيب.) إن شغب هؤلاء قديم ...بدأه رؤوس
المعتزلة الأوائل كالنظام والهذيل...وبيان تهافت شبههم قديم أيضا
بقدمهم...يقول العلامة ابن قتيبة المتوفى سنة 376 هـ في كتابه الرائع
(تأويل مختلف الحديث/ص20) : (وقد تدبرت رحمك الله مقالة أهل الكلام فوجدتهم
يقولون على الله مالا يعلمون, ويفتنون الناس بما يأتون, ويبصرون القذى في
عيون الناس وعيونهم تطرف على الأجذاع, ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون
آراءهم في التأويل ومعاني الكتاب والحديث, وما أودعاه من لطائف الحكمة
وغرائب اللغة لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية
والأينية, ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما وضح لهم المنهج, واتسع
لهم المخرج, ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة وحب الأتباع واعتقاد الإخوان
بالمقالات, والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضا). واعلم رحمك الله أنك لو
تدبرت كلام ابن قتيبة..ثم لاحظت صنيع عدنان إبراهيم في كثير من مثالاته
لرأيت أن مثله المقصود بالكلام. ولعل من أقبح ما يلاحظ على الأستاذ عدنان
إبراهيم كثرة استهزائه وسخريته من مخالفيه جملة...فإن هذا صنيع من لا يعرف
قدر أهل الحديث...فقد قال الخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) : (من
كادهم قسمه الله, ومن عاندهم خذله الله, لا يضرهم من خذلهم , ولا يفلح من
اعتزلهم, المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير, وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير,
وإن الله على نصرهم لقدير) ومما يعاب على عدنان توريط العوام في علوم
الحديث في نقد أحاديث الصحيحن ثم غيرها ..بعد أن ورط نفسه فلا هو ولا من
يجالسه ممن يحسنون هذه الصناعة إلا لمما...وصدق الإمام أبو داود في رسالته
إلى أهل مكة حين قال: (ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب
فيما مضى من عيوب الحديث , لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا) قال العلامة
ابن رجب في شرح العلل : وهذا كما قال أبو داود فإن العامة تقصر أفهامهم عن
مثل ذلك, وربما ساء ظنهم بالحديث جملة إذا سمعوا ذلك وقد تسلط كثير ممن
يطعن في أهل الحديث عليهم بذكر شيء من هذه العلل, وكان مقصوده بذلك الطعن
في الحديث جملة,والتشكيك فيه ) قلت: وهذا الذي حصل فافتتن من أعجب بعدنان
وساء ظن كثير منهم بالحديث ...وأهله...وصاروا يشككون في كثير من
الأحاديث..وسقطت هيبته في قلوبهم . وقد شاغب الأستاذ عدناد مرارا بدعوى
مخالفة الحديث للقرآن ...وهو نوع من التمويه ..فإن التعارض حاصل بين فهمه
هو للقرآن وفهمه هو للحديث...ولا يلزم منه كون التعارض بين القرآن
والحديث...فتنبه.فليس في دعاواه تلك حجة ملزمة..فلإن علم شيئا فقد غابت عنه
أشياء...فالأفهام متفاوتة...ولا يجوز التسرع في متابعة عدنان ...ولابد من
التثبت. وينبغي لعدنان وأمثاله وأضرابه..وأتباعه ومقلديه أن يعلم- إن كان
أهلا لأن يقلد ويتبع..فهو سحابة صيف عن قليل تقشع..- أنه بهذا قد صنف نفسه
..وأوضح مقالاته...فعرفنا قصده ووجهته..ومورده ومصدره...و قد أخطأ كثير من
الذين تصدوا للرد عليه..فزعموا تارة أنه زيدي..وتارة أنه رافضي..لكن الرجل
من هذا وذاك على مرمى حجر..لكنه ليس كذلك...فالرجل قد عرف حاله, وبان
مقداره..وهو إلى مدرسة أهل الرأي المعتزلة أقرب..وإن زعم في بعض خطبه أنه
أشعري ويتشرف بذلك..فالرجل من أفراخ الاعتزال...له سلف معروفون...غره عقله
كما اغتر منظروا مدرسته...فماذا كان.؟ وتأمل كلام الشاطبي رحمه الله تعالى
حين وصفهم في الاعتصام (ص168/دار الكتب العلمية) بـ(ردهم للأحاديث التى جرت
غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للمعقول وغير جارية على
مقتضى الدليل فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله
عز وجل في الآخرة. وكذلك حديث الذباب وقتله وان في أحد جناحيه داء وفي
الآخر دواء وأنه يقدم الذي فيه الداء... وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة
المنقولة نقل العدول
ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين
رضي الله تعالى عنهم - وحاشاهم - وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على
عدالتهم وإمامتهم.كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب وربما ردوا
فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها...
قال عمر بن النضر سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء - وأنا عنده - فأجاب فيه
,فقلت له: ليس هكذا يقول أصحابنا. قال: ومن أصحابك لا أبا لك؟ قلت: أيوب
ويونس وابن عون والتيمى.قال: أولئك أنجاس أرجال أموات غير أحياء)
قلت: تدبر كلام الشاطبي جيدا, وأعد قراءته مرارا, ثم غيِّر اسم عمرو بن
عبيد بعدنان إبراهيم وأسماء أولئك الأئمة بأسماء علماء أهل الحديث في
زماننا ...واستحضر سخريته منهم ...وتذكر أنني رددت على عدنان في استشكاله
حديث الذبابة ..ولك الآن فرصة معرفة حقيقة عدنان...وإلى أي مدرسة فكرية
ينتمي...ودع عنك كما قلت سابقا تمسحه بالانتساب إلى الأشاعرة...فالأمر وراء
ذلك بالتأكيد! فإن فكر الاعتزال لم يمت وإن مات مؤسسوه ...وقد ابتلي
البناء الفكري الاعتزالي بالانحلال عبر التاريخ لكنه وجد مضيفين لبعض أصوله
كما وقع مع الفكر الأشعري (فإن طريقة العرض الاعتزالية قد عاشت من خلال
المنهج الأشعري) وانظر لزاما مصدر هذا الاقتباس وهو كتاب (المعتزلة بين
القديم والحديث)
أما بعد فقد لقد حشر الأستاذ عدنان إبراهيم نفسه
في مضيق لم يتجاوز على مر التاريخ إلا بعلم وعدل..وهما أمران لا يصدران عن
عدنان...إلا مرة ثم مرة. ولست أقصد بالعلم الفلسفة .ولا علم الكلام...ولا
كثرة المعلومات..ولا أن يكون عنده مسكة من ذكاء..بل علم الحديث وملكة
الاستنباط على أصوله وقواعده..بالجمع بين المتعارضات..والتوفيق بين
المختلفات ...والانتقال من التوقف عند ظواهرها إلى كشف بواطنها...والخوض في
صحيح البخاري لا يكون إلا لمن تأهل وتمهل...وآتاه الله نصيبا من علوم
الحديث خصوصا علم العلل... وقدرا من علوم الاستنباط خصوصا علم التعليل..وقد
تتبعت عدنان إبراهيم في خطبة له...حشد فيها جملة من الشبهات...وأثار فيها
أمام عوام الناس في الشريعة جملة من الاستشكلات...لم يكن فيها بالبدع من
المتعدين المعتدين..فهو كما قلت...مجتر لمحاولات أسلافه ...فليس له في كل
هذا إلا سحر العرض ...وشعوذة الخطاب. ولا ينطلي على عاقل متأدب ما يزعمه
عدنان من نقد الحديث من جهة متنه على طريقة الاعتزال..موهما أن أهل الحديث
عن ذلك كله في انعزال ..بل هم رواده وفرسانه...وأهله وأصحابه..وقد ألف في
بيان أحقية أهل الحديث به مؤلفات ..من أقربها إلى طلبة العلم كتاب(نقد
المنقول) للعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ... وأما زعمه هو وأمثاله أنهم
يطمئنون إلى العقل في نقد تلك الأحاديث فاغترار وسذاجة ..زيقول العلامة
مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه العجيب الذي كان نصحني به شيخنا محمد
بوخبزة حفظه الله قديما (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي/ص258/قواعد
العلماء في نقد المتن/دار السلام) : (أي عقل يردون أن يحكموه ويعطوه من
السلطة أكثر مما أعطاه علماؤنا في قواعدهم الدقيقة, ليس عندنا عقل واحد
نقيس به الأمور, بل العقول متفاوتة , والمقاييس مختلفة,فما لا يعقله ولا
يفهمه, قد يراه آخر معقولا مفهوما
وكل يدعي وصلا بليلى***وليلى لا تقر لهم بذاكا
ففتح الباب في نقد المتن بناء على حكم العقل الذي لا نعرف له ضابطاً،
والسير في ذلك بخطى واسعة على حسب رأي الناقد وهواه، أو اشتباهه الناشئ في
الغالب عن قلة اطلاع، أو قصر نظر، أو غفلة عن حقائق أخرى، إن فتح الباب على
مصراعيه لمثل هؤلاء الناقدين، يؤدي إلى فوضى لا يعلم إلا الله منتهاها،
وإلى أن تكون السُنّةُ الصحيحة غير مستقرة البنيان ولا ثابتة الدعائم،
ففلان ينفي هذا الحديث، وفلان يثبته، وفلان يتوقف فيه، كل ذلك لأن عقولهم
كانت مختلفة في الحُكْمِ والرأي والثقافة والعمق، فكيف يجوز هذا؟. ثم أليس
لنا أكبر عبرة فيما وقع فيه مؤلف ( فجر الإسلام ) من أخطاء بشعة حين أراد
أن يسير في هذا الاتجاه، فَكذَّبَ ما لا مجال لتكذيبه، وحكم بوضع ما قامت
الأدلة والشواهد على صحته!).
ويقصد بمؤلف (فجر الإسلام ) أحمد أمين
الذي لم يخف تحسره على اختفاء فرقة المعتزلة بعبارة مثيرة إذ يقول في (ضحى
الإسلام/3/207/ ): (من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة) ولك أن تضع
علامات استفهام وتعجب كثيرة وكبيرة على هذا التصريح الخطير!!!!
بل
قد شهد أحمد أمين باستمرار وجود الفكر الاعتزالي إلى الآن في ما يسمى
بالنهضة الحديثة والتي ينسب الناس إليها عدنان إبراهيم...! فإنه قال في
(الضحى/3/207/الطبعة السابعة) : (فلما ضعف شأن المعتزلة بعد المحنة ظل
المسلمون تحت تأثير حزب المحافظين نحوا من ألف سنة,حتى جاءت النهضة
الحديثة,وفي الواقع أن فيها لونا من ألوان الاعتزال ).ويقصد بالمحافظين
الفقهاء وأهل الحديث..وها قد شهد شاهد من أهلها وكفى.
ويكفي ما
سطرته هنا ..وإن كان الأمر يحتاج إلى بيان أبسط وأوسع ولكن اللبيب بالإشارة
يعي ويفهم...ولعلني أجعل ذلك في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
وقد
لاح لي أن يكون لي مع عدنان في موقفه من صحيح البخاري خاصة وقفات بقدر ما
أثاره من شبهات واستشكالات, أعرضها في حلقات سميتها (كشف المتواري من تعدي
عدنان إبراهيم على صحيح البخاري) والله المستعان.